سندرلا ..::مستشارة إدارية::..
عدد المساهمات : 284
| موضوع: البداهة والمسؤولية .. إدموند هوسرل الجزء 5 11/11/10, 04:06 pm | |
| في الموقف الطبيعي لا يكون العالم الواحد موضوعا، لا يكون محط اهتمام. فالاهتمام ينصب على الموضوعات في العالم. العالم هو سياق الإحالة الذي تندرج فيه الموضوعات بالنسبة للوعي القصدي. بفعل هذا السياق تتم إحالة الوعي من موضوع إلى موضوع. يستخدم الوعي هذه الإمكانية التي تنفتح له بفضل العالم، ولكن الاستخدام ذاته، إنجاز الإحالة، يبقى أمرا تلقائيا لا يوضع موضع سؤال، بحيث أن الوعي الطبيعي يكاد لا يوجه نحوه انتباهه. يمكن أن يكون لدينا بين الحين والآخر الوعي بوجود سياقات الإحالة المرتبطة بعالم خاص تتحرك داخله. لكن الموضوعات تستحوذ في العادة على انتباهنا. لذلك لا يمكن أبدا أن تكون الإحالة الشاملة محط اهتمام قبل أن تجعل الفلسفة من العالم الواحد محط اهتمامها.
وعليه يمكن القول: إن ما يبقى حقا في الوعي الطبيعي خارج مجال الاهتمام هو الإحالة الشاملة، أي خاصية العالم التي تتمثل في أنه أفق لكل الآفاق. وباختصار: إن ما يبقى أساسا خارج الاهتمام هو طابع الأفق. لكن عندما أصبح العالم الواحد محط اهتمام التفكير الفلسفي-العلمي الناشئ أصبح موضوعها لهذا التفكير. إلا أنه بذلك فقد طابع الأفق؛ ذلك أن كل موضوع يستأثر بانتباه الوعي إلى حد أن الإحالة تصبح أمرا تلقائيا.
ينبثق التفكير الفلسفي-العلمي الناشئ، كمحاسبة قائمة على المسؤولية الأخيرة، عن النزوع نحو التحقيق من خلال البداهة، هذا النزوع الذي يكون في الموقف الطبيعي في خدمة مصلحتنا في الموضوه المطابق لذاته. إن الشيء المطابق لذاته الذي تركز فيه اهتمام التفكير الناشئ، هو العالم كموضوع، ولكن بذلك لا يكون العالم الواحد محط اهتمامه من حيث ما يجعل منه حقا عالما، أي من حيث هو سياق شامل للإحالة، بل إنه يظهر كما لو كان موضوعا ضخما يضم داخله كل الموضوعات الفردية، أو كما لو كان موضوعا ضخما يضم داخله كل الموضوعات الفردية، أو كما لو كان وعاءا جامعا لكل الأحداث في العالم. هكذا تمت موضعة العالم الواحد ليصبح مجالا كليا لجميع الموضوعات. إن طابع الأفق، الذي من أجله أصبح العالم محط اهتمام، تم نسيانه منذ البداية. نسيان الأفق عند الاهتمام بالعالم الواحد هو ما يسميه هوسرل النزعة الموضوعية.
ينتمي للنزعة الموضوعية فهم محدد للتفكير الفلسفي-العلمي لذاته. نظرا لأنه يقوم على مصلحة، وبالضبط على مصلحة تتعلق بالعالم كموضوع شامل، فإنه يرى أن مهمته تكمن في أن يلم بهذا المجال الكلي لجميع الموضوعات إلماما شاملا. لكن ذلك يعني أن الفيلسوف والعالم يتخذان من هذا المجال الكلي موقفا مماثلا للعلاقة التي سبق أن تعرفنا عليها بين ممارسي مهنة محددة، محترفي فن تقني محدد، وبين عالمهم المهني الخاص. إن الإنسان بإمكانه أن يتوفر مسبقا، قبل كل فلسفة، على وعي صريح بالعوالم الخاصة التي تشكل آفاق اهتمامه، وذلك على خلاف الأمر فيما يتعلق بالعالم الواحد. هذه الإمكانية يتبعها التفكير الفلسفي-العلمي. بدا أن يتخذ إزاء العالم الواحد حالة السكون المتحرر من المصلحة، فإنه يتعامل معه كما لو كان عالما مهنيا خاصا. هكذا تسير النزعة الموضوعية في الفلسفة مع إضفاء الطابع المهني عليها يدا في يد.
كل فن تقني حرفي له مظهران: يرتكز الإلمام، من جهة، على امتلاك معارف عن الموضوعات الرئيسية للعالم الخاص الذي يتعلق به الأمر؛ هذه المعارف يتم اكتسابها خلال التعامل الأصلي مع تلك الموضوعات، وهي تشكل القاعدة الحدسية، دعامة البداهة في المهنة. لكن ينتمي لكل فن تقني، من جهة أخرى، نوع من المهارة، نظرا لأن الأمر يتعلق في كل فن تقني بإنتاج شيء ما. لأجل ذلك يجب أن يكون المرء قادرا على أن يبتدع طرقا وشروطا تمكن من إنتاج شيء ما وتحقيق مشاريع مختلفة. هذا هو الجانب التقني المحض في المهنة: المهارة في ابتداع شروط التحقيق تلك.
إن الحدس الأصلي الذي يرتكز عليه كل فن تقني مرتبط بوضعيات، إنه يتم في الظهور الذاتي النسبي. في ظرفية هذا الظهور تعلن إحالات الأفق عن ذاتها. لهذا يضمحل الظهور الذاتي النسبي مع نسيان طابع الأفق المميز للعالم. هذا الاضمحلال يطبع التطور الأقصى للنزعة الموضوعية في العصر الحديث. إنه يتجلى في الكيفية التي يفهم بها البحث الحديث ذاته: يجب تدريجيا إقصاء كل نسبية-ذاتية للقضايا العملية بكيفية منهجية لصالح الموضوعية الصارمة. إن الكيفية التي يتجلى بها شيء مالي أو لك هي بالنسبة للبحث عديمة الأهمية، إنها تمثل عائقا أمامه. ما يهم هو فقط الشيء في ذاته، أي طبيعته المستقلة عن كل ذاتية ظرفية.
بذلك ينفلت من البحث أساس البداهة: فالحدس الأصلي لا يمكن أن يتم إلا كظهور نسبي-ذاتي. وهذا بدوره يعني: لا يتبقى من مهنة العالم إلا الجانب الآخر، الإجراء التقني بالمعنى الذي وصفناه. إن غاية العلم في تأسيسه الأصلي، التي تتمثل في النظر إلى كلية العالم، تبقى قائمة. إلا أن هذه المهمة تتحول الآن إلى مشكل للمهارة التقنية. إن مهمة الباحث الآن هي أن يجد وينتج، حسب تصميم معين، شروطا للملاحظة ترغم العالم، مفهوما الآن بصفته مجموع الموضوعات، على أن يتجلى أمام نظره. وهذا يعني: إن البحث يتخذ الشكل المنهجي لتضافر الفرضية والتجريب. إن نجاح البحث يقاس فقط بمدى فعالية هذا الإجراء التقني الخاضع لقواعد منهجية. يستخدم البحث البداهة في الظهور النسبي-الذاتي، كما كان يفعل الوعي الطبيعي أيضا؛ لكن التساؤل عن أساس البداهة ذاته لا يبقى مطروحا. بسبب هذا الموقف الوحيد الجانب ينعت هوسرل في مرحلته المتأخرة العلم الموضوعي النزعة بأنه "مجرد فن تقني". | |
|