إن المحاسبة القائمة على المسؤولية الأخيرة تطمح إلى أن تتخطى نهائيا الدوكسا، أي مجرد الرأي. تقول "مجرد" الرأي لأن كل رأي لا يمثل إلا موقفا مؤقتا. كل موقف يتيح نظرة إلى الأشياء، إلا أن هذه النظرة قد تكون في حاجة إلى مراجعة. ينتمي للرأي ذاته الوعي بطابعه المؤقت. إنه هو ذاته يشعر بأن نظرته في حاجة إلى أن تتجاوز. كل نظرة تتجه نحو شيء يظهر. يتميز ظهور ما يظهر في مجرد الرأي بأنه يحيل إلى ما وراء ذاته، أي إلى ظهور يكون فيه ما يظهر ماثلا أمام أعيننا بكيفية لا تبقى في حاجة إلى أن تتجاوز.
إنني أظن مثلا بأن الطقس في ألاسكا بارد، إلا أن الإقامة بالفعل في ألاسكا هي وحدها ما يثبت صحة هذا الظن؛ أو أظن أن مجموع زوايا المثلث تساوي زاويتين قائمتين، لكن الإنجاز الفعلي للبرهان هو وحده ما يمنحني الإقناع الكامل بذلك. وهكذا تكمن في كل رأي إشارة مسبقة إلى وضعيات ممكنة يتم فيها ظهور الشيء الذي نقصده بكيفية تؤكد توقعاتنا بشكل تام.
إننا عند التعامل مع كل ما يظهر لنا في حياتنا اليومية -بأية كيفية كانت- نكون مثل من يتعامل بصكوك دون أن يعرف بيقين تام هل هناك رصيد يغطيها. إن الوضعيات التي يحيل فيها الظهور إلى ما وراء ذاته هي وحدها تجعل الرصيد مطابقا للصكوك. هذه الوضعيات تؤكد توقعاتنا، لأن ما يظهر يكون فيها حاضرا أمام الإنسان في قرب تام. ينعت هوسرل هذا النوع من الظهور بأنه أصلي. نظرا لأن الشيء الذي يظهر يتجلى هنا في تحديداته بكيفية غير مقنعة، فإنه يمكن نعت الظهور الأصلي بالبداهة في توسيع مناسب للمفهوم القديم.
إن البداهة بهذا المعنى لا توجد في الفلسفة والعلم فحسب، بل قبل ذلك في الحياة اليومية السابقة للعلم، بل إن البداهة تلعب هناك دورا حاسما: لا يمكننا عموما أن نعيش، إلا لأن كل مالنا علاقة به، إما أن يكون معروفا لدينا في وضعيات ظهوره الأصلي، أو أن يكون من الممكن -في حالة عدم اليقين- أن ننتظر وضعيات للبداهة يكون فيها ما يظهر قريبا منا في تحديداته. إن وعينا بما يظهر لنا في العالم يتميز إذن، قبل كل فلسفة، بالتعلق المستمر بالبداهة، أي تلك البداهة التي يعرف الوعي كيف يحيل ذاته إليها سواء كانت في وضعية سابقة أو منتظرة. هذا التعلق بالبداهة يعطي لوعينا طابعا ديناميا يسميه هوسرل القصدية.
إن الفلسفة، كمشاهدة نظرية للعالم، لا يحق لها، بناء على روح المسؤولية الذاتية الجذرية، أن تكتفي بوجهة نظر الرأي بصدد ما يظهر. لهذا يجب عليها أن تتعلم رؤية ما يظهر بالكيفية التي يتبدى بها الوعي القصدي في وضعيات البداهة. هذه هي الخطوة الأساسية للفينومينولوجيا. إنها لكي تجعل ما يظهر ماثلا أمام المشاهدة النظرية بكيفية تامة وغير مقنعة، تبحث في الحياة اليومية السابقة للفلسفة عن وضعيات البداهة التي فيها يقدم ما يظهر ذاته أصليا للوعي. إن الفينومينولوجيا، العلم الفلسفي الذي يهتم بالظهور، يصف كيف تظهر الأشياء في حالة البداهة. إنها تحلل ما يظهر في ظهوره الأصلي.
يمر الفينومينولوجي عند إنجاز هذه المهمة بتجربة مدهشة لا يمكن تجنبها: كل ما يظهر لنا في العالم خلال حياتنا اليومية يصادفنا كشيء مطابق لذاته، أي كشيء يبقى ثابتا رغم تغير إمكانيات ظهوره وتعددها. المثال النموذجي على ذلك عند هوسرل هو الموضوع الذي ندركه بصريا. هذا الموضوع يقدم ذاته إلينا في مظاهر ومنظورات متعددة -فالمنزل مثلا يظهر للمارة في الشارع بشكل يختلف عن الشكل الذي يظهر به لشخص في الحديثة-، ولكنه بالرغم من هذه التعددية السائلة لكيفيات ظهوره، يبقى ثابتا باعتباره هو ذاته. هكذا يصادفنا كل ما يظهر، كل حادث في العالم، كقطب مطابق لذاته في طيف كيفيات ظهوره. بهذا المعنى -وبهذا المعنى فقط- ينعت هوسرل كل ما يظهر بأنه موضوع.
لا يمكن أن تكون لنا علاقة بأي موضوع إلا إذا أعطي لنا في كيفية ما للظهور. لكن كل كيفية للظهور ليست سوى إمكانية واحدة ضمن إمكانيات كثيرة ومتنوعة للظهور. إن الموضوع المطابق لذاته هو أكثر مما يبدو في كل كيفية للظهور. إنه يحتاج بالتأكيد إلى كيفية ما للظهور كمناسبة لكي يقدم ذاته للوعي القصدي، إلا أنه ليس مقيدا بمناسبة محددة. يجب أن تصادفنا الموضوعات في مناسبة أو ظرف لكي تدخل في علاقة معنا، مع الذوات المجربة. إنها بذلك فقط تمتلك وجودا لأجلنا، وجودا ذاتيا-نسبيا كما يقول هوسرل. إلا أنها أكثر مما يظهر منها في كل مناسبة أو ظرف. إنها تتعالى إذن على ظرفيتها (أي ظهورها في مناسبة أو وضعية ما)، وهذا التعالي هو بالضبط ما يمنحها مطابقتها لذاتها. إنها فقط بفضل مطابقتها لذاتها تمتلك وجودا موضوعيا، أي وجودا نفترض فيه أنه مستقل عن ظهورها لنا وعن كيفية هذا الظهور. إن تعاليها على وجودها الظرفي من أجلنا يضمن وجودها في ذاتها مفهوما بهذا الشكل، أي موضوعيتها.
ينتمي لإمكانيات الظهور الظرفي للموضوعات الظهور الأصلي أيضا، البداهة. إذا كان الواعي القصدي يتوفر على مضامين تجعله غير فارغ، فذلك فقط لأنه يقتات من البداهات التي تصبح فيها تحديدات الموضوعات في متناوله. لكن، من جهة أخرى، يجب على الوعي أن يتخطى الظهور الظرفي، وبالتالي البداهة هي أيضا، لكي يكون أمام موضوعات مطابقة لذاتها وقائمة بذاتها.
يترتب عن ذلك نتيجة أساسية بالنسبة لتحليل الفينومينولوجي: لا يكفي أن يبحث عن الوضعيات الأصلية لظهور الأشياء في الحياة اليومية وأن يصف ما يظهر كما يقدم ذاته في وضعية البداهة، بل يجب عليه، فوق ذلك، أن يفسر كيف يتمكن الوعي القصدي من أن يتخطى الظهور الأصلي الظرفي نحو موضوعات مطابقة لذاتها. لكن هذا التفسير لا يمكن أن ينطلق إلا من الظهور الأصلي؛ لأنه على أساسه هو فقط تنال الموضوعات بالنسبة لنا، نحن البشر، تحديداتها. يجب إذن على الفينومينولوجي أن يقبل بأن الظهور الأصلي ذاته هو الذي يحفز الوعي لكي يخطو نحو موضوعات مطابقة لذاتها. إن الحافز الأصلي لتخطي العطاء الظرفي باتجاه موضوعات مطابقة لذاتها يسميه هوسرل البناء. والوصف الفينومينولوجي يجب أن يتطور إلى تحليل البناء، أي يجب أن يفسر كيف يتخطى الوعي بحافز البداهة العطاء الظرفي.
إنه فقط مع هذه الخطورة تتجاوز الفينومينولوجيا بشكل أساسي التأسيس الأصلي الإغريقي للمشاهدة النظرية الشمولية للعالم. هذه المشاهدة الإغريقية كانت متجهة نحو ما يظهر. تحافظ الفينومينولوجيا على هذا التوجه ما دامت تصف ما يظهر في ظهوره الأصلي. مع تحليل البناء ينتقل اهتمامها إلى الوعي، ذلك أن حوافز تخطي العطاء الظرفي هي إنجازات للوعي القصدي. وهذه هي خطوة هوسرل باتجاه الفلسفة الترنسندنتالية الحديثة؛ فالفلسفة الترنسندنتالية، حسب تعريف كنط لها في "نقد العقل الخالص"، لا تهتم بالموضوعات فقط، بل في المقام الأول "معرفتنا للموضوعات"، أي بظهورها للوعي. يحمل التحويل الترنسندنتالية للاهتمام ما يظهر في ظهوره إلى ظهور ما يظهر الطابع الأساسي للتأمل الانعكاسي، لإرجاع الانتباه إلى الوعي كمحل للظهور.
لا يمكن للوعي القصدي أن يبني موضوعات مطابقة لذاتها إلا إذا حفزته الكيفيات الظرفية للظهور. ولكن كيف يمكن عموما أن تحفز كيفيات الظهور الوعي؟ إجابة هوسرل تقول: لأنها تحيل إلى بعضها البعض. عندما أرى منزلا من الشارع، أكون على وعي بأنه يمكنني أن أشاهده من جانب آخر أيضا، مثلا من الحديقة. وهكذا فإن إدراك المنزل يندرج في سياق من إحالات كيفيات الظهور على بعضها البعض. كل سياق للإحالة من هذا النوع هو مجال يفتح أمام الوعي القصدي ومعيشاته زاوية للنظر. هكذا نعود إلى الآفاق، العوالم الخاصة، التي تحدثت عنها في سياق التأسيس الأصلي الإغريقي: لقد تبين الآن أنها ليست شيئا آخر سوى سياقات لإحالة كيفيات الظهور على بعضها البعض.
عند الحديث عن التأسيس الأصلي الإغريقي سجلت أن الآفاق محددة بمصالح. يمكن الآن تعميق هذه الفكرة. هناك مصلحة تهيمن على الوعي القصدي من أساسه. إن ما يهمه هو أن يتوفر على موضوعات قارة مطابقة لذاتها. لتحقيق هذه المصلحة يجب على الوعي أن يكون سياقات إحالة لكيفيات الظهور، أي آفاقا. فبفضل وعينا بأننا نتحرك داخل مجال من إمكانيات الظهور التي تحيل إلى بعضها البعض تبرز موضوعات مطابقة لذاتها بصفتها ما يبقى ثابتا رغم سيلان إمكانيات الظهور المتعددة. لذلك فإن الإنجاز الأساسي للوعي عند بناء موضوعات مطابقة لذاتها هو تكوين الآفاق. والآن كيف تطور الإبستيمي لذاته عن الدوكسا مع الفكرتين الرئيسيتين الكامنتين فيه: البداهة والمسؤولية الأخيرة إلى الفينومينولوجيا الترنسندنتالية؟