سندرلا ..::مستشارة إدارية::..
عدد المساهمات : 284
| موضوع: تأملات في كتاب "حوار الحضارات" 11/11/10, 03:46 pm | |
| تأملات في كتاب "حوار الحضارات"
"الغرب عارض طارئ . تلكم هي المصادرة الأولى في كل اختراع يتناول المستقبل". هذه هي الشهادة التي نعتز بها للمفكر والفيلسوف الفرنسي المعاصر روجيه غارودي، إنها شهادة عالمية تكشف عن عمق ووجاهة التحدي الذي أثاره غارودي في اغلب كتاباته إذ أن أحدا لم يكتب من قبله مثل هذا الاتهام الأعظم في قسوته ضد جرائم الإنسان الأبيض وغطرسته واستبداده . ولعل مثل هذا الاتهام لم يكن وليد تأمل عابر لثقافة الغرب بل كان نابعا من تجربة كونية لهذا المفكر شملت الكرة الأرضية بأسرها، فغارودي حلّق فوق ذرى العالم كلها من قمم كليمنجارو إلى أعالي جبال الهمالايا ومن سلاسل كورديلير إلى الاند إلى براكين جاوه وجبال فوجياما المقدسة إلى جبال أكونج في بالي، واغتسل في كل مياه بحور العالم، من المياه الثقيلة في البحر الميت إلى البحيرات الساحلية في بحار الجنوب ومن الكاريبي إلى المحيط الهندي، وفي النيل وبحيرة بيكال وفي الامازون وفي يامونا المتدفق نحو الغانج وباتجاه بناريس. واجتاز كل الابواب، من باب الهند في بومباي إلى باب الشرق في ميسوري. وتأمل في جل المرتفعات التي ترك فيها الانسان بصماته وآثاره من أبادانا التي أشادها دارا وكسرى وأحرقها الاسكندر إلى مدن المايا ومعابدها إلى بالنك وإلى غواتيمالا... إلى مصب دجلة والفرات إلى سمرقند في آسيا الوسطى إلى قبب المساجد التي تحاكي عقد اللؤلؤ من الأطلسي إلى الهند ما صغر منها في تلمسان أو ما عظم منها كما في السليمانية أو الجامع الأزرق في إسطنبول أو المسجد الجامع في أصفهان إلى تلك المساجد التي يثابر من خلالها المسلمون على تأمل عقيدتهم مثل جامع الزيتونة بتونس أو الأزهر بالقاهرة ... هذه البقاع والتلال والربوع والمساجد والبحور تشهد كلها في مختلف أصقاع العالم بحقيقة الرسالة الإنسانية التي يحملها على عاتقه هذا الفكر المعاصر وما يدين به للإنسان . هذا الفيلسوف، في كل كلمة ينطق بها و في كل حرف يكتبه نلحظ عنوان التحدى وقوة التوثيق وعمق التجربة وعراقة التاريخ وأصالته، انهيعرف نظريا وعمليا، في الواقع وعن طريق المطالعة والقراءة رحلة الإنسان عبر التاريخ وكل ما أودعته الحضارات، هذا التاريخ الذي تعبّر عنه كتب الإنسان المقدسة كزندافستا الزرادشتيين في ايران وملحمة كلكامش عن الخليج العربي وملحمة رامايانا في دلهي وكاتمدنووطاو- ته – كينغ –لـ "لاو-تسي" وبوبول –فوللمايا الخ...... إن غارودي، إذن رجل لقاءات ورجل حوارات أولنقل "علاّمة " و"رجل تاريخ "... وما شد في الحقيقة انتباهي كتاب له من الحجم المتوسط يحمل عنوان " حوار الحضارات ". " Pour un dialogue de civilisation " هذا المؤلف ، وضع له الكاتب مدخلا يحمل عنوان " شهادة تجربة عالمية " و قسّمه إلى خمسة فصول تتوزع كالآتي: ?الفصل الأول : بلد الغسق وأساطيره . ?الفصل الثاني : الغرب عرض. ?الفصل الثالث : الفرص المفقودة. ?الفصل الرابع: الأبعاد المطلوبة مجددا. ?الفصل الخامس : المشروع الكوني . لينتهي غارودي إلى خاتمة اختار لها من العناوين: " الحلف الثالث " والمتأمل للكتاب ينكشف له للتو قيمة التحدي الذي وجهه الكاتب للثقافة الغربية فاضحا بذلك الوهم القائل إن الغرب وحده مبدع القيم الإنسانية وإن الثقافة الأوروبية هي الثقافة المتفوقة . إن هذا الكتاب يقدح ويدين صراحة تلك المجازر التي ارتكبها الرجل الأبيض ضد الإنسانية ويزيح اللثام عن أوهام الثقافة الأوروبية ويطعن في " صلف الكبرياء" و" جنون العظمة " التي يصف بها الرجل الغربي انطلاقا مما يسميه "الفرص المفقودة" في التاريخ والتي تجسدت في الإبادة الجماعية لهنود أمريكا ونخاسة الزنوج التي أفنت مائة مليون من الإفريقيين والهاوية الإنسانية بين الشمال والجنوب وجهل الثقافات والحضارات اللاغربية . هذا الكتاب بقدر ما يجلّى للعيان ويفضح، يرنو إلى تأسيس نظام عالمي جديد ينطلق من حوار مع حضارات آسيا والإسلام وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، إنه حوار يطعن في فكرة المركزية الثقافية ** القائلة بتفوق ثقافة الرجل الأبيض والمكرّسة لمنطق التمايز بين الإنسان المتمدن او المتحضر والإنسان المتوحش أو البربري، هذا الحوار الذي يريد غارودي التأسيس له يفتح دروبا جديدة أمام الإنسان والتاريخ، إنه حوار يدعو إلى ضرورة التجرد من الحكم العرقي المسبق القائل بتميز الإنسان الأبيض أو بلغة الكاتب نفسه، هذا الحوار يهدف إلى تهديم ما سمّاه " الشر الأبيض" دلالة على الدور المشؤوم الذي نهض به الرجل الأبيض عبر التاريخ. لكأن هذا المشروع الذي يصبو غارودي لرسمه يجدد فينا روح المراهنة على مطلب الكونية *** باعتباره ذلك الأفق الذي يمكن أن تتحقق فيه إنسانية الإنسان، إذ يقول الكاتب في هذا السياق: " و بهذا الحوار بين الحضارات وحده يمكن أن يولد مشروع كوني يتسق مع اختراع المستقبل، وذلك ابتغاء أن يخترع الجميع مستقبل الجميع ". ومثل هذا الحوار لن يتحقق بالمعني الحقيقي إلا إذا تخلص الغرب من عقدة التمركز الثقافي . ولا بد إذن من في مجال العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية في الغرب من إعادة صنع كل شيء حسب قواعد جديدة تأخذ بعين الاعتبار جميع القارات وجميع الثقافات والحضارات. وعلى النهاية، هذا هو المشروع الكوني الذي نادي به غارودي، مشروع "حوار الحضارات"، وما أحوجنا نحن اليوم إلى درء ما يصطبغ ويتطبّع به واقعنا الراهن من حروب ونزاعات و سفك للدماء و جرائم ترتكب يوميا في حق الأبرياء، ألا يحق لنا أن نهتف مع هذا المفكر عاليا : " الحوار ............. بديلا عن الدمار ". | |
|