..:: منتدى أقلام الجزائر ::..
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

..:: منتدى أقلام الجزائر ::..

علم معرفة علوم دروس بحوث مذكرات تخرج كتب ثقافة بيئة أسرة حواء آدم اسلاميات هوايات تجارب تصاميم ترحيب تعارف صداقة أخوة حب في الله
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الفلسفة في مواجهة عنف المغالطة من خلال " الدحوضات السفسطائيّة " لأرسطو

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
سندرلا
..::مستشارة إدارية::..
..::مستشارة إدارية::..
سندرلا


انثى
عدد المساهمات : 284

الفلسفة في مواجهة عنف المغالطة من خلال " الدحوضات السفسطائيّة " لأرسطو  Empty
مُساهمةموضوع: الفلسفة في مواجهة عنف المغالطة من خلال " الدحوضات السفسطائيّة " لأرسطو    الفلسفة في مواجهة عنف المغالطة من خلال " الدحوضات السفسطائيّة " لأرسطو  I_icon_minitime11/11/10, 03:42 pm

الفلسفة في مواجهة عنف المغالطة
من خلال " الدحوضات السفسطائيّة " لأرسطو

إعداد وتقديم : الأستاذ شكري مليكة
المعهد النموذجي بسوسة

قدم هذا العمل بمركز التكوين المستمر بسوسة 2007
"Le rôle de la philosophie c'est de démasquer la violence, ou qu'elle se trouve, aussi bien qu'elle se dissimule dans la parole rhétorique et sophistique, ou qu'elle se donne l'air d'une vérité " évidente" "

Eric Weil , Philosophie et réalité


" يكمن دور الفلسفة في كشف الأقنعة عن العنف حيثما كان، سواء تخفى في الكلام الخطابيّ والسفسطائيّ أو منح لنفسه مظهر الحقيقة " البديهيّة" "
اريك فايل , الفلسفة والواقع .






توضيح

إنّ الغرضَ من هذه المحاولة ليس اقتراح تمشٍ في تناول عنصر " الوعي بالمغالطات " المتعلّق ببرامج الثالثة ثانويّ بكل شعبها ، من خلال مفصلةٍ إشكاليّة لمختلف المعاني التي يتضمّنها، لأنّ ذلك أمر يبقى موكولاً لحريّة الأستاذ، ومتعلّقا باختياراته الفلسفيّة الشخصيّة، كما أنّه أمر يبقى مشروطا بصدور الكتاب المدرسيّ وما سيحتويه من سنداتٍ ومن نوافذ تُنير عمليّة توظيفها.
كما أنّ غرض هذه المحاولة لن لن يتعلّق بمقاربة هذا العنوان ( الوعي بالمغالطات ) بالعودة إلى اليوميّ للتنقيب في بنيته وتفكيك آليات عمله لرصد تجليات حضور المغالطة في نطاقه من خلال الصحافة والسياسة والإشهار والإنتاج التلفزيونيّ وأشكال التواصل المتداولة في الأسر والمدارس والمصانع والملاعب والمقاهي... لأنّ مثل هذا الغرض يتطلّب بحثا ميدانيّا وعملا على وسائط ثقافيّة عديدة لا يتحققان إلا من خلال جهد جماعيّ .
إنّ غرض هذه المحاولة لن يتجاوز حدود النظر في دواعي الاهتمام الفلسفيّ بالمغالطة باعتماد مثال معيّن هو " الدحوضات السفسطائيّة " لأرسطو من مدوّنته المنطقيّة " الأرغانون " وإبداء بعض الملاحظات النقديّة في شأن قيمة إسهامه ومدى قدرته على استيفاء مطلب الاهتمام بالمغالطة. ولهذا ستتألف هذه المحاولة ن ثلاث لحظاتٍ أساسيّة وهي :
I ـ دواعي الاهتمام فلسفيّا، اليومَ، بالمغالطة.
II ـ المغالطة : دلالتها ، وآليات عملها ، ووسائل إحباطها من خلال " الدحوضات السوفسطائيّة " لأرسطو .
III ـ قيمة الإسهام الأرسطيّ في التفكير في المغالطة اليوم.

I ـ في دواعي الاهتمام فلسفيّا بالمغالطة اليوم

يبدو من غير الوجيه إعادة دفع الاهتمام بالمغالطات في الخطاب في عصر أضحى فيه الاحتواء الايديولوجيّ للأفراد ومراقبتهم سلطويّا تتمّ بآليات مرهفة وخفيّة لا تلجأ إلى الخطاب بشكلٍ أساسيّ على نحو ما كان سائدا في السابق، إذ الهيمنة على الإنسان كما بيّن ذلك النقد الفلسفيّ والسوسيولوجيّ مع ماركوز وآدرنو وهابرماس وفروم وبودريار وبورديو وفوكو...أضحت تعتمد :
. رغد العيش الذي حوّل الوفرة في المجتمع الاستهلاكيّ وما يرتبط بها من رفاهيّة وتسلية وملذات وأناقة... إلى ايديولوجيا جديدة تجعل من المنتجات نفسها واقتنائها تكييفا للحساسية وللفكر وللسلوك فيتوهم الأفراد أنّهم يحيون في أفضل العوالم الممكنة وينعمون بالمساواة والحريّة والسعادة.يقول ماركوز ( الإنسان ذو البعد الواحد ) " إنّ المنتجات تكيّف النّاس ذهنيّا وتشرّطهم وتشكّل وعيا زائفا عديم الإحساس بِما فيه من زيف."
" Les produits endoctrinent et conditionnent, ils façonnent une fausse conscience insensible à ce qu'elle a de faux."( L'homme unidimensionnel p.37 )
. سلطة الصورة من خلال الدعاية والإشهار والإعلام التي تحوّلت بحكم بنائها وكثافة دفق بثّها إلى ضرب من غسيل الدماغ الذي يصيب الأفراد ويسلب قدرتهم على التفكير بوضوح والحكم بشكلٍ مستقلّ .يقول اريك فروم ( إما الإمتلاك أو الكينونة ) " إنّ الأساليب الإيحائيّة شبه التنويميّة المستخدمة في الإعلانات التجاريّة والدعاية السياسيّة تعدّ خطرا كبيرا على الصحّة العقليّة، وخصوصا على الصفاء الذهنيّ والتفكير النقديّ واستقلاليّة الوجدان."
" Les méthodes hypnoïdes utilisées par la publicité et par la propagande politique mettent sérieusement en danger la santé mentale et tout particulièrement le pensée claire et critique et l'indépendance émotionnelle."( Avoir ou être p.216 )
. الإخضاع السلطويّ للأجساد الذي يهدف إلى التحكّم في أدقّ حركات الأفراد وأفعالهم وإشاراتهم من خلال إجراءات انضباطيّة تعضدها مراقبة مستمرّة للسيطرة على الإنسان وعياً وجسدا فيكون نافعا وطيّعا في آن. يقول فوكو ( أقوال وكتابات ) " إنّ الكيفيّة التي يُراقب بها فردٌ ما، ويضبط بها تصرّفه وسلوكه واستعداداته، والكيفيّة التي بها يتمّ الزيادة من كفاءته ومضاعفة مهاراته، والكيفيّة التي بها يوضع الفرد في المكان الذي يجعله الأكثر فائدة: هذا هو الانضباط في نظريّ."
"Comment surveiller quelqu'un, comment contrôler sa conduite, son comportement, ses aptitudes, comment intensifier ses capacités, comment le mettre à la place où il sera plus utile: voilà ce qu'est à mon sens la discipline." ( Dits et Ecrits )
إنّ هذا الاعتراض، على وجاهته، لا يفرغ الاهتمام بالمغالطة من أهميّتها لأنّه بالرغم من أنّ العلامة في عالم الإنسان اليوم أصبحت مفتوحة على الصورة والبضاعة والفعل إلا أنّ الكلمة لا زالت تقوم فيها بدورٍ مركزيّ. فهذه التقنيات السلطويّة في توجيه الوعي والسيطرة على الأجساد فضلا عن كونها متقاطعة ومتعاضدة يسند بعضها بعضا فإنّها لا يمكن أن تتحقّق دون خطابٍ يحثّ عليها ويبرّرها :
. فرغد العيش يتحرّك في إطار ايديولوجيا كما بيّن ذلك بودريار هي " ايديولوجيا الجسد " تجد تبريراتها في خطاب حاضرٍ في الإشهار والبرامج التلفزيونيّة والصحف والمجلات والمحادثات اليوميّة بين الأفراد .
. ولا يتحقّق تأثير الصورة وخاصة في الدعاية السياسيّة وفي الإعلام دون خطاب سياسيّ يحاول التأثير في الحشود استمالة الناخبين وخطاب إعلاميّ يحلّل الأحداث ويعلّق عليها.
. ولا يتجلى الإخضاع السلطويّ للأجساد واقعيّا كعلاقة صراع بين القوى في العلاقات المعرفيّة والجنسيّة والاقتصاديّة والأسريّة ... إلا من خلال صراع بين خطابات متضادّة ، فالنساء مثلاً في مقاومتهن للهيمنة الذكوريّة يرفعن شعارات ويصغن خطابا مضادا للخطاب المبرّر لتلك الهيمنة.
إذا كانت الكلمة لازالت تمثّل محور عالم الإنسان وصيغ التواصل بينه وبين الإنسان، فإنّ ما يمكن معاينته في شأن آليات عملها وقيمتها أنّها موسومة بالعنف. وأخطر أشكال عنف الكلمة لا يكمن في تلك الصيغ المكشوفة والعارية مثل التجريح والتحقير والكراهية والشتم... بل في المغالطة التي تختفي خلف شكل الاستدلال المتماسك والسليم وتزعم أنّها تبرهن بشكلٍ عقليّ تحقيقًا للإقناع والحال أنّها لا تنتج إلا استدلالات فاسدة تتحرّك بين مقدّمات ونتائج زائفة رهانها في ذلك الـتأثير في الإنسان قصد تضليله حتّى يكون ذلك معبرا نحو تحقيق مصالح محدّدة.
إنّ المغالطة هي أخطر أنواع عنف الكلمة لأنّها توهم أنّها تستدل وتقنع وتزعم أنّها تقدّم الحقيقة وتحرّر من الوهم والخطأ والحال أنّها تغالط وتؤثّر وتمنح الوهم كشرطٍ للإخضاع. وهذا العنف يسكن عالمنا ويلازم كلامنا وتواصلنا. فيتجلى في خطب السياسيين ووعظ الفقهاء والحوارات التلفزيونيّة وسجالات المثقفين وشعارات الإشهار والتعبئة الدعائيّة وتصريحات رموز الثقافة الجديدة من رياضيين ومطربين وممّثلّين وصحفيين وسياسيين... الذين قال عنهم ميشال هنري " كل الذين يقدّم إليهم المصدح، هؤلاء الكهنة الجدد المفكرون الحقيقيّون لزماننا "
…tous ceux à qui on tend les micros, les nouveaux clercs,les vrais penseurs de notre temps . (La barbarie)
إنّ عنف المغالطة باعتباره أخطر أنواع العنف كانت الفلسفة منذ أفلاطون وآرسطو في إطار صراعهما ضدّ السوفسطائيّة أوّل من انتبه إلى خطورتها على الإنسان ونبّه لها . وهذا الأمر لم يكن عرضيّا بالنسبة إلى الفلسفة لأنّه من صميم هويتها كخطاب لا يتحدّد إلا في اختلافه عن العنف وتناقضه معه وعمله على إنهائه ، فقد كانت ولازالت وستكون خطاب العقل في مواجهة العنف . يقول اريك فايل في مؤلفه " الفلسفة والواقع" :
" يطرح العنف واستعماله على الفلسفة مشكلا على درجة عالية من الخطورة وفي العمق نظرا إلة كون الفلسفة لا تؤسّس لذاتها ولا تفهم نفسها إلا في إطار التعارض مع العنف واستعماله من حيث هي تحديدا إرادة تنشد خطابا كونيّا ."
" La violence et l'usage de la violence posent problème, au plus haut point et en profondeur, à la philosophie, étant donné qu'elle se fonde et se comprend elle-même dans l'opposition à la violence,précisément en tant qu'elle est volonté de discours universelle.(E.Weil , Philsophie et réalité)
ويتضّح ممّا سبق أنّ النشاط الفلسفيّ الراهن لا يُمكنه في رهانه على كشف كل الأقنعة التي يختفي وراءها عنف الخطاب اليوم إلا أن يستفيد من كل النقد الذي استهدف المغالطة عبر كل تاريخ الفلسفة بدءا بالإسهام اليونانيّ، ليعمل على رصد آليات عملها المختلفة. وفي هذا الإطاريُمكن للجزء السادس من " أرغانون " أرسطو " الدحوضات السوفسطائيّة " أن يمثّل عيّنة تكون رافدا لنشاط الفلسفيّ في هذه المهمّة التي يضطلع بها.

IIـ المغالطة : دلالتها، وآليات عملها وأدوات إحباطها، من خلال " الدحوضات السوفسطائيّة " لأرسطو.

رغم أنّ العنوان الجامع لأعمال أرسطو المنطقيّة وهو " الأرغانون " ليس من وضع أرسطو، ورغم أنّ التدرّج النسقيّ للأجزاء التي تبدأ من كتاب" المقولات " وتنتهي" بالدحوضات السوفسطائيّة " لا يعكس المسار الزمنيّ والتكوينيّ لهذه الأعمال، فإنّها تعبّر عن مشروع هادف إلى تحديد القواعد التي تنظّم عمليّات الفكر عند الاستدلال وتكفل حمايته من التناقض والخلل من جهة التماسك الصوريّ لتلك العمليّات بغضّ النظر عن المضمون الواقعيّ للقضايا التي تشتغل عليها.
ولئن كان هذا المشروع الأرسطيّ امتدادا لنفس الهمّ الأفلاطونيّ المتمثّل في إنقاذ النقاشات في المدينة من أخطار الخطابة السوفسطائيّة بالتأسيس للحكمة الحقّ في مواجهة سرابها الخادع كما يقدّمه السوفسطائيون للشباب الأثينيّ، فإنّ أرسطو قد اضطلع بذلك من خلال تصوّر مغايرٍ على مستوى المنطلقات والوسائل والغايات.
إنّ فعل التفكير الذي ينبغي وضع قواعد منطقيّة صوريّة تجنّبه التناقض والخطأ لا يتحقّق من خلال المفهوم ( الحدّ )، ولا من خلال الحكم ( القضيّة الحمليّة )، بل من خلال الاستدلال كعمليّة ذهنيّة ينطلق في نطاقها الفكر من قضايا أولى هي المقدّمات ليستنتج منها قضيّة جديدة هي النتيجة. إنّ هذه العمليّة الاستنتاجيّة التي تقود الفكر من معطيات انطلاق هي المقدّمات ( Les prémisses ) ، على نحوٍ ضروريّ، إلى نقطة وصول هي النتيجة ( La conclusion ) هي ما يسمّيه أرسطو بالقياس Le syllogisme يعرّف أرسطو القياس في " التحليلات الثانية " بقوله :
"Le syllogisme est un discours dans lequel certaines choses étant posées, quelque chose d'autre que ces données en découle nécessairement, par le seul fait de ces données."
" القياس هو قول عندما نصادر فيه على بعض الأشياء، فإنّ شيئا آخر مختلفا عنها ينتج ضرورةً بواسطة تلك المعطيات المصادر عليها وحدها."
,إذا كان التفكير لا يكون إلا استدلاليا ، وكان الشكل المنطقيّ للاستدلال هو القياس ، وجب حينئذ تحديد القواعد المنطقيّة الصوريّة لبنائه حتّى يكون بحقّ " أرغانون " ( الوسيلة ) التي تقود الفكر بنظامٍ، بحسب ثلاثة محدّدات أساسيّة وهي :
. كمّ القضايا التي تكوّنه : إذا ما كانت كليّة ( كل المواطنين متساوون ) أو جزئيّة ( بعض النّاس موسيقيون)
. كيف القضايا التي تكوّنه : إذا ما كانت قضايا موجبة ( بعض النّاس رياضيون ) أو سالبة ( لا أحد من النّاس هو حيوان رباعيّ القوائم ) .
. موقع الحدّ الأوسط في المقدّمتين، فكل قياس يتضمّن مقدّمتين الأولى هي الكبرى( La majeure ) والثانية هي الصغرى ( La mineure ) ومنهما يتمّ استنتاج النتيجة . ففي هذا القياس :
. كل المواطنين ( حدّ أوسط ) أحرار( حدّ أكبر )
. وكل الأثيينيين ( حدّ أصغر ) مواطنون ( حدّ أوسط )
. إذن الأثينيون ( حدّ أصغر ) أحرار( حدّ أكبر )
إنّ هذا القياس لم يسمح بهذا الاستنتاج إلا بفضل الحدّ الأوسط الذي مكّن من الربط بين الحدّ الأصغر والحدّ الأكبر.
إنّ هذه المحدّدات الثلاثة هي التي تمكّن من وضع قواعد الاستدلال ومن تصنيفه بحسب أشكال des figures وضروب des modes . ففي القياس المذكور آنفا : ورد الحدّ الأوسط في المقدّمة الكبرى موضوعا، وفي المقدّمة الصغرى محمولا، كما أنّ القضايا الثلاث التي تؤلّف هذا القياس كانت كليّة موجبة . إنّ هذه المحدّدات تجعل من هذا القياس أكمل أشكال الاستدلال:إنّه قياس Barbara المنتمي إلى الشكل الأوّل.
وإذا كان للقياس قواعد بناء وأصناف، فإنّ له محاذير إذا ما أخلّ بها أصبح فاسدا وهي :
ـ لا يُمكن استنتاج أيّة قضيّة من مقدمتيْن سالبتيْن.
ـ لا يُمكن استنتاج قضّية سالبة من مقدّمتيْن موجبتيْن.
ـ تتطابق النتيجة كمّا وكيفا مع أضعف المقدّمتيْن.
ـ إنّ الحدّ الأوسط ينبغي أن يرد على الأقلّ مرّة واحدة كليّا.
ـ لا ينبغي للكمّ أن يكون أكبر في النتيجة من الصيغة التي ورد بها في المقدّمتيْن.

وإذا كان للقياس، كأداة لقيادة عمليّة التفكير بنظام، شروطا صوريّة واحدة ، فإنّه يختلف من حيث المادة جوهريا بحسب مضمون المقدّمات التي ينطلق منها.فإذا كانت مقدّمات القياس يقينيّة كان برهانيا وتنزّل في نطاق العلم والحقيقة، أما إذا كانت مقدّماته القياس احتماليّة كان جدليّا وتنزّل ضمن النقاشات العامة والخاصة وما يتصلّ بها من ظنون. ولكن بين هذين المجالين وهما العلم والجدليّة وهاتين الآليتيْن في الاستدلال وهما القياس البرهانيّ والقياس الجدليّ ، يتسلّل صنف ثالث للقياس يختفي تارة خلف قناع العلم وطورا خلف قناع الجدليّة وهو القياس السوفسطائيّ الذي ينطلق من مقدّمات كاذبة ولكنّه يخفي كذبها بوسائل عديدة بعضها لغويّ وبعضها منطقيّ ليخدع المجادل ويغالطه ويوهمه بصواب ما يستنتجه والحال أنّ ما يقدّمه هو استدلال فاسد على مستوى مقدّماته وبنيته ونتائجه.
إنّ المغالطة، إذن، هي استدلال يبدو في الظاهر متماسكا من حيث بنيته المنطقيّة وظنيّا على مستوى مقدّماته ونتائجه ولكنّه فاسد صورةً ومادةً، شكلا ومضمونا، لأنّه لا يقوم إلا على مقدّمات كاذبة وبناء مختاّ ونتائج مضلّلة بغاية التغليط فيكون شبيها حسب أرسطو بأشياء صنعت من رصاص أو قصدير فتبدو فضيّة أو صنعت من معدن أصفر فتبدو ذهبيّة. يقول أرسطو ( الدحوضات ) :
" وتكون خصاميّة الحجج التي تؤدي إلى نتائج أو هكذا تبدو انطلاقا من مقدّمات احتماليّة في الظاهر ولكنّها ليست كذلك في الحقيقة."
" …sont éristiques, enfin, les arguments qui concluent, ou paraissent conclure à partir de prémisses probables en apparence, mais en réalité ne le sont pas."
ويمكن رصد عمل المغالطة في القياس الفاسد والكشف عن آليات ذلك العمل علة مستويين:
. مستوى لغويّ، يقوم على اختلالات دلاليّة تتعلّق باستغلال التباس الألفاظ لأجل التغليط ( وسمّاها مؤرخو المنطق بالمغالطات اللفظيّة ).
. مستوى منطقيّ، ويقوم على اختلالات منطقيّة في عمليّة بناء القضايا والربط فيما بينها داخل الاستدلال . ( المغالطات المعنويّة)

غير أنّ أرسطو لا يكتفي برصد المغالطات وإزاحة الستار عن آليات التغليط فيها بل يعمل على وضع أدوات مضادة بها يُمكن للمشارك في النقاش أن ينجو من تأثيرها ويردّها ويكشف عن المناورات التضليليّة التي اعتمدتها.

ـ المغالطات التي تتعلّق بالخطاب ( المغالطات اللفظيّة )
يرصد في هذا النطاق ست مغالطات وهي : الاشتراك، والاشتباه، والتركيب، والتقسيم، والنبرة، وصورة الكلام.
أـ الاشتراك / L'homonymie
تقوم هذه المغالطة على بناء المقدّمات في الاستدلال باستغلال ما يوجد من تعددّ المعاني بالنسبة إلى اللفظ الواحد . فلفظ واجب مثلا يفيد في آن واحد : ما يكون وجوده ضروريا ، وما يجب على الإنسان الالتزام به أخلاقيّا، ولكنّ المغالط يستغلّ هذا الاشتراك ليبني الاستدلال الفاسد التالي:
. إنّ الأشياء التي يجب أن تكون هي خير .
. والشرور يجب أن تكون.
. إذن الشرور خيرٌ.
إنّ الحلّ المضاد لهذه المغالطة، كما يقترحه أرسطو، هو أن تكون إجابة المجادل متعدّدة المعنى حتّى تتصدّى لهذا الالتباس. فعند استنتاج أنّ الشرّ خير، فيجب الردّ ، الشرّ يجب أن يكون باعتبار أنّ وجوده ضروريّ ولكنّه ليس ما يجب على الإنسان أن يلتزم به فيكون خيرا.
ب ـ الاشتباه / L'amphibolie
إنّ المقدّمة قضيّة حمليّة يتمّ الربط في نطاقها بين ألفاظ ربطا يمكن أن ينجرّ عنه غموض في المعنى فيبقى ملتبسا يفهم على أنحاء مختلفة، وهو ما يتعمدّه المغالط ليبني استدلالات فاسدة لتضليل مجادليه. كأن يقول :
. أليس ما تقول أنّه موجود تقوله عن وجودك.
. وبما أنّك تقول إنّ هذا الحجر موجود.
. إذن، أنت تقول أنّك حجر.
إنّ الحلّ الذي يقترحه أرسطو لمواجهة المغالطة هو ذات ما قدّمه بالنسبة إلى مغالطة الاشتراك وهو رصد موضع الالتباس في القياس والردّ عليه على نحو مزدوج بالقول: نعم إنّ ما أقوله عن نفسي أنّه موجود هو موجود حقّا, ولكن ليس ما أقول أنّه موجود عموما ينطبق عليّ .
ج ـ مغالطة التركيب / La composition
يمكن أن يلجأ المغالط في جداله إلى التركيب بين عدد من القضايا لكل منها معنى محدّد تركيبا يحوّلها إلى قضيّة ملتبسة المعنى فيستغلّ هذا الالتباس للتغليط كأن يقولك
. إذا أمكننا حمل جسم يزن خمسين رطلا.وإذا أمكننا كذلك حمل جسم ثان له نفس الوزن، وإذا أمكننا حمل جسم ثالث وآخر رابع لهما نفس الوزن. إذن يمكننا حمل ثقل يزن أربع مئة رطل.
إنّ هذه النتيجة راهنت على لبس المعنى فأخذت حمل أجسام متفرّقة على أنّه حمل لثقل واحد، ويكون إبطال ذلك باللجوء إلى التقسيم من خلال تحليل ما ركّبه المجادل وبيان أنّ الأمر يتعلّق بقضايا منفصلة لكل واحدة منها دلالتها الخاصة فيكون الردّ عليه بأنّ حمل أجسام يزن كل واحد منها خمسين رطلا بشكل منفصل لا يعني أنّ الإنسان قادر على حملها جميعا في نفس الوقت .
د ـ مغالطة التقسيم / La division
وتتمثّل في استدلال فاسد تُستنتج فيه القضيّة من تحليل المعطى وتقسيم عناصره والحكم على كل عنصر من هذه العناصر بما يوهم أنّ الحكم ينطبق على المعطى الأوّل قبل تحليله. كأن يبني المغالط استدلاله على هذا النحو :
. يتألف العدد خمسة من العددين ثلاثة واثنين.
. والعدد ثلاثة فرديّ , والعدد اثنان زوجيّ .
. إذن، العدد خمسة فرديّ وزوجيّ في آن واحد.
ويكون إبطال مغالطة التقسيم باعتماد آلآليّة المضادة وهي التركيب بحيث يتمّ التشديد على أنّ الأحكام التي تنطبق على عناصر شيء ما بعد تحليله لا تنطبق على الشيء في وحدته قبل تحليله إلى تلك العناصر. فالعدد خمسة ليس العدد اثنان الزوجيّ ولا هو بالعدد ثلاثة الفرديّ بل هو عدد قائم بذاته وفرديّ ولا يمكن أن يكون فرديّا وزوجيا في آن واحد.
هـ ـ مغالطة النبرة / L'accentuation
وتتمثّل هذه المغالطة في استغلال كيفيّة التلفّظ بالعبارة لإحداث لبس ما يعتمد في بناء استدلال بغاية تغليط المجادلين ، كأن ينطلق المتحدّث من هذه القضيّة " أ النّاس سواسية " دون تلفّظ واضح بالألف الاستفهاميّة فتبدو للمستمع وكأنّها قضيّة تقريريّة تؤكّد المساواة بين النّاس والحال أنّها قضيّة استفهاميّة تتساءل إذا ما كان النّاس متساوين أم لا .
ويعتبر أرسطو هذه المغالطة نادرة ، وأمر كشفها سهلا .
و ـ مغالطة صورة الكلام / La forme du discours
إذا كانت القضيّة المنطقيّة في كل استدلال هي حمليّة يتمّ في إطارها الربط بين موضوع ومحمول طبقا للمقولات العشر كما حدّدها أرسطو فإنّ المجادل يلجأ إلى الخلط بينها قصد التغليط فيقدّم الكمّ وكأنّه كيف، والفعل وكأنّه انفعال، والوضع وكأنّه ملك ، والجوهر وكأنّه علاقة... ففي هذا الاستدلال يلجأ المجادل إلى الخلط بين الفعل والكيف فيقول :
. إذا أهداك أحدهم خلاّ فأنت تكون قد حصلت عليه
. وإذا تخمّر هذا الخلّ وأصبح خمرة.
. إذن , فأنت لم تحصل على ما حصلت عليه .
ولا إبطال لهذه المغالطة إلا بتمييز دقيق بين هاتين المقولتين وهما : الفعل، والكيف لينهار هذا الاستنتاج ويظهر غلطه.

ـ المغالطات التي تتعلّق باختلالات منطقيّة في بناء القياس عند الاستدلال ( مغالطات معنويّة )
يرصد أرسطو في هذا النطاق سبع مغالطات وهي : العرض، الخلط بين المطلق والنسبيّ، مغالطة تجاهل المطلوب، المصادرة على المطلوب، النتيجة، أخذ ما ليس بعلّة على أنّه علّة ، الجمع بين المسائل في مسألة واحدة.
أ ـ مغالطة العرض / L'accident
تقوم نظريّة أرسطو في المقولات على التمييز بين المقولة الأولى وهي الجوهر والمقولات التسع الأخرى باعتبارها تمثّل أعراضا لذلك الجوهر. وفي هذه المغالطة يلجأ المجادل في استدلاله إلى نفي هذا التمييز وأخذ أحد أعراض شيء ما على أنّه جوهره والشيء ذاته. ففي هذا الاستدلال :
. كوريسكوس مختلف عن سقراط.
. وسقراط إنسان.
. إذن، كوريسكوس مختلف عن الإنسان.
وفي هذا الإطار يتضّح الخلط المتعمّد بين أحد أعراض كوريسكوس وهو اختلافه عن سقراط وبين صفة انسانيّة كجوهر لسقراط ولكل إنسان. وإبطال هذه المغالطة يكون ببيان أنّ ما يصحّ على أحد أعراض الشيء لا يصحّ على الشيء ذاته بحيث لا يمكن استنتاج من اختلاف كوريسكوس عن سقراط ، وهو أمر صائب، أنّه ليس بإنسان، وهو قول خاطئ.
ب ـ مغالطة الخلط بين المطلق والنسبيّ
وتتمثّل هذه المغالطة في التعامل مع معنى اللفظ دون تحديد لمداه الدلاليّ فيتمّ الخلط بين معناه النسبيّ المشروط بحدود معيّنة ومعناه المطلق دون حدّ، مثل القول:
. الهنديّ أسود البشرة.
. ولكنّه أبيض الأسنان.
. إذن الهنديّ أسود وأبيض في آن واحد.
ففي هذا الاستدلال الفاسد جعل المغالط من البياض وهو نسبيّ يقف عند حدود الأسنان، ليعمّمها على لون الهنديّ بإطلاق. ولإبطال هذه المغالطة ينبغي تحديد زاوية النظر والعلاقة والكيفيّة والمدّة الزمنيّة التي يكون من خلالها ذلك القول صائبا حتّى يتسنى التمييز إن كان معناه ينطبق على الشيء بإطلاق أم بشكلٍ نسبيّ ومشروط .
ج ـ مغالطة تجاهل المطلوب
وتتمثّل في تجاهل المجادل للقضيّة المطلوب الاستدلال على صوابها ليتجه نحو إثبات صواب شيء آخر مغاير لها ، ففي هذا الاستدلال:
. إنّ من يعرف أ يعرف الشيء المسمّى ب أ .
. ولكن من يعرف أنّ كوريسكوس هو كوريسكوس يمكنه أن يجهل أنّه موسيقيّ
. إذن من يعرف أ هو جاهل ب أ .
هناك تجاهل لما هو مطلوب ، فهو بدل أن يثبت أنّ المعرفة بكوريسكوس هي جهل به ، يتجاهل ذلك ليثبت أنّ الجهل بأحد أعراض كوريسكوس هو جهل بكوريسكوس نفسه. ولا إبطال لهذه المغالطة إلا برصد إن كان الأمر يتعلّق بنفس المحمول من نفس زاوية النظر، وفي إطار نفس العلاقة ونفس الزمان ونفس الكيفيّة بحيث يتيح له ذلك أن يبيّن أنّ ما أبطله المجادل هو العلم بأحد أعراض كوريسكوس وليس بكوريسكوس نفسه.
د ـ مغالطة المصادرة على المطلوب / La pétition de principe
تحدث هذه المغالطة عندما يلجأ المجادل إلى التسليم منذ المقدّمتين بما يتجه إلى البرهان عليه بواسطتهما في النتيجة، ففي هذا الاستدلال :
. كل إنسان بشر، وكل بشر عاقل، إذن كل إنسان عاقل.
ويتضح الخلل المنطقيّ القائم في بناء هذا الاستدلال من الطابع التوتولوجيّ للمقدّمة الأولى: كل إنسان بشر، ومن المصادرة على المطلوب الكامنة في المقدّمة الثانية: كل إنسان عاقل، التي تسلّم بمضمون النتيجة التي سيُبرهن عليها فتكون النتيجة حاضرة فيها قبل الانتقال إليها. ويكون إبطال هذه المغالطة برصدها وبيان أنّ ما قدّمه المجادل هو تكرار لأحدى المقدّمتين دون استدلال على النتيجة .
هـ ـ مغالطة النتيجة
وتحدث هذه المغالطة عندما ينطلق المجادل من علاقة سببيّة بين السبب أ والنتيجة ب ليجعلها علاقة متبادلة بينهما بحيث كلّما وجد ب دلّ ذلك على وجود أ . ففي هذا الاستدلال :
إنّ الحمى تجعل الجسم حارا ، وبما أنّ الجسم حار، إذن فهو محموم .
وهو استنتاج مغالط لأنّه إذا كانت الحمى تجعل الجسم حارا، فإنّ ذلك لا يعني أنّه كلّما كان الجسم حارا لا بدّ وأن يكون محموما لأنّ حرارته يمكن أن تنجم عن عوامل أخرى.
وـ مغالطة أخد ما ليس بعلّة على أنّه علّة .
تحدث هذه المغالطة عندما يحاول المجادل إثبات ما يريد البرهان عليه بردّه إلى علّة غير علّته الحقيقيّة كأن يتجه إلى إثبات أنّ تكوّن الماء مردّه تحوّل الهواء إلى ماء بفعل اشتداد البرودة وهو غلط يعلّل تكوّن الماء بغير علّته لأنّ علّة الماء هي في تجمّع ذرّات البخار الموجودة في الهواء.
ز ـ مغالطة جمع المسائل في مسألة واحدة
وهي طريقة مغالطة في توجيه النقاش تعتمد دمج عدد من الأسئلة في سؤال واحد لطرحه على المجادَل فلا يميّز بينها فيقع في الغلط ويناقض نفسه بنفسه مهما كانت إجابته.فعندما يطرح عليه هذا السؤال : هل أنّ الملذات الحسيّة والملذّات العقليّة خير أم شرّ ؟ فإنّ المجادل إن هو أجاب : بأنّها خير كان مخطئا لأنّ اللذة الحسيّة مقارنة بالعقليّة ليست خيرا, وإن هو أجاب بأنّها شرّ كان مخطئا لأنّ اللذة العقليّة هي الخير مقارنة بما في اللذة الحسيّة من شرّ .
ويكون الاعتراض على هذا الصنف من الأسئلة مباشرا ببيان أنّه لا يمكن إثبات محمول أو نفيه إلا بالنسبة إلى موضوع واحد لا أكثر. لذلك لا يمكن التساؤل إلا عن الملذات الحسيّة أو العقليّة كل على حدة إذا ما كانت خيرا أم شرا. فلا إجابة ، إذن إلا على سؤال يرتبط بعلاقة بين موضوع واحد ومحمول واحد.
إنّ هذا الإسهام الأرسطيّ يعدّ، في نظره كما أوضح ذلك في خاتمة الدحوضات، التتمّة الضروريّة للجدليّة في مواجهة الخطابة السفسطائيّة . فإذا كانت الجدليّة بحاجة إلى تقنيات منطقيّة تمكّن المتحاورين ن الدفاع عن أطروحاتهم في إطار النقاش ، فإنّ دراسة المغالطات تمكّنهم من الإفلات من حيل السفسطائي عند الإجابة عن أسئلته وكشف غلطها وإثبات ضعف مهارته المزعومة. وهو ما يبرز جدارة الجدليّة بأن تكون فنّا أصيلا في توجيه المناقشات العامة والخاصة وإنقاذها من عنف السفسطائيّة حتّى وإن كانت تتحرّك في فضاء الظنّ ولا ترقى إلى الحقيقة نفسها وما تقتضيه من قياسات برهانيّة .

III ـ قيمة الإسهام الأرسطيّ بالنسبة إلى التفكير في المغالطة اليوم .

إنّ المقصد الأساسيّ لإسهام أرسطو الفلسفيّ هو وضع نظريّة في العلم يبلور من خلالها أسسه وشروطه التي تضع العقل على طريق الحقيقة اليقينيّة . وإذا كان بمؤلفه " الميتافيزيقا" قد بلور أسسه الانطولوجيّة كعلم أسمى بالوجود من حيث هو موجود، فإنّه من خلال مؤلفه " الأرغانون" قد حدّد الشروط المنطقيّة للعلم المتمثّل في القياس البرهانيّ.
إنّ هذا الإسهام وإن كان قد عبّر عن نفس هاجس أفلاطون في البحث عن أساس وطيد للعلم الحقّ في مواجهة كل المعارف الظنيّة، فإنّه قد انتهى إلى نتائج أطردت الجدليّة من إطار العلم لتصبح فنّا في توجيه المناقشات العامة داخل الحياة الخاصة والعامة ليجنّب المشاركين فيها الوقوع في التناقض ويحصّنهم ضدّ المغالطة بالانطلاق من مقدّمات لا تتجاوز حدود الظنّ والاحتمال.ولكن أيّة قيمة يمكن أن يكتسيها هذا الإسهام في اضطلاع الفلسفة بمهمّتها الأساسيّة وهي مواجهة العنف والعمل على إلغائه بما في ذلك عنف المغالطة؟
إنّ العودة إلى تاريخ الفلسفة لا يمكن أن تتحوّل إلى نشاط مستقلّ بذاته يصبح بديلا عن فعل التفلسف نفسه، فمثلما يقول ميشال ميار" إنّ الجوء إلى تاريخ الفلسفة لا يمكنه أن يشكّل فلسفة."
"…le refuge dans l'histoire de la philosophie ne saurait tenir lieu de philosophie.( De la problématologie p.11)
ولهذا لا يمكن للعودة لأرسطو من أجل الوقوف عند تناوله للمغالطات في سياق مواجهته للخطابة السوفسطائيّة أن تكون غاية في ذاتها، بل ينبغي أن تكون في سياق حوار بين الحاضر والماضي يجد منطلقه في إشكاليّات العصر الراهن. فاليوم يتعيّن على الفلسفة أن تضطلع بمهمّتها الأساسيّة وهي اختراق كل الأقنعة التي يختفي وراءها العنف ، ولكنّها مهمّة تحمل وراءها تراثا نقديا جذريا أدّى إلى إنهيار المشروع الميتافيزيقيّ للحقيقة سواء في صيغته الانطولوجيّة القديمة أو الترنسنداليّة الحديثة، وحمل معه في هذا الانهيار الإرث الأرسطيّ في خصوصيّة إشكاليّته.ولكن بالرغم من كل ذلك فإنّ مقاصد أرسطيّة كثيرة ، في اهتمامه بالمغالطات، لا زالت تحافظ على راهنيتها . وهي مقاصد تتقاطع عند تحديد المقتضيات المنطقيّة والاتيقيّة لإنقاذ النقاش بين الإنسان والإنسان من العنف :
. إنّ النقاش فضاء تواصل عموميّ يهيئ البشر للاتفاق وللقرار ، يتعيّن حمايته من عنف المغالطة ليتمّ فيه الدفاع عن الأطروحات ومجادلتها دون تناقض أو تغليط وإن كانت تتجاوز مقدّمات الاستدلال في نطاق النقاش حدود الظنون الاحتماليّة.
. إنّ عنف المغالطة لا يمكن مجابهتها إلا بأدوات منطقيّة تكشف مدى فساد استدلالاتها سواء من جهة بنائها الصوريّ أو مضامينها الماديّة.
إنّ هذه المقاصد الأرسطيّة لا يمكنها إلا أن تكون راهنة اليوم بحيث يمكن ملامسة صداها في النشاط الفلسفيّ المعاصر الذي يحاول أن يعبّر ‘ن أعمق ما فيها من خلال تصوّر جديد للنقاش ، وهو أمر يمكن معاينته ( على سبيل المثال ) من خلال أعمال كل من يورغين هابرماس Jürgen Habermas وكارل أوتو أبل Karl-Otto Apel باتجاة بلورة اتيقا النقاش.فإذا تعذّر على الفلسفة أن تؤسّس للحقيقة ميتافيزيقيا انطلاقا من عقل جوهريّ وذات مفكّرة، فإنّه لم يبق لها سوى النقاش كإطار بينذاتيّ يمكن من خلاله أن تحقّق اتفاقا ينقذ الإنسان من العنف ، ومن عنف المغالطة على وجه التحديد. ولذلك يتعيّن وضع المقتضيات الأخلاقيّة والمنطقيّة التي بها يكون قادرا على الاضطلاع بهذه المهمّة:
. فمَن يُشارك في النقاش لا بدّ أن يصادر ضمنيّا على هذا المبدأ المعياريّ الأخلاقيّ وهو إقصاء العنف من أجل إخضاع كل موضوعات الخلاف لحجاج هدفه التوصّل إلى اتفاق مشترك يحتكم إلى الاقتناع بالحجّة الأفضل.
. غير أنّ هذا المبدأ الأخلاقيّ لا يمكن أن يتحقّق دون نظريّة في الحجاج تعتبر أنّ النقاش ينبغي أن تقوده قواعد خاصة تجعل منه نشاطا تواصليّا يقوم على بحث جماعيّ يهدف إلى إثبات الصلاحيّة الكليّة للقضايا المطروحة، وذلك من خلال الدفاع عنها بواسطة حجج وجيهة ومقنعة. وهي حجج يتمّ إخضاعها لنقد عقليّ يفحص تلك الأطروحات على مستوى مفترضاتها ونتائجها بواسطة حجج والتدرّج من خلال ذلك نحو اتفاق يحظى بالاقتناع من قبل جميع المشاركين في النقاش استنادا إلى وجاهة الحجّة الأفضل.
. إنّ هذا التواصل البينذاتيّ في إطار النقاش يكشف عن عمل عقلٍ إجرائيّ قوامه النقد والحجاج بحيث يُخضع كل الأطروحات للنقد ويكشف عن كل أشكال المغالطة الثاوية فيها، ويمتحن مدى جدارتها بأن تتبوأ صلاحيّة كليّة قادرة على أن تكون محلّ اتفاق. وبذلك يمكن محاصرة المغالطة قلا يبقى لها من إمكانية لمجاورة الحجج في النقاشات . يقول هابرماس متحدثا عن هذا الأفق الذي تتيحه اتيقا النقاش بالنسبة إلى الإنسان في مواجهة العنف :" يتيح التفاهم البينذاتيّ حقّا إلى التوصّل إلى اتفاق غير عنيف بفضل القوة غير القسرية للحجّة الأفضل." ( حوار مع صحيفة لوموند بتاريخ 14 / 09 / 1993 )
"Grâce à la force non coercitive du meilleur argument, l'entente intersubjective permet, en effet, d'aboutir à un accord non violent…"
ولكن إذا كان النشاط الفلسفيّ المعاصر قد جسّم هذا المقصد الأرسطيّ في تحرير الإنسان من عنف المغالطة من خلال وضع مقتضيات منطقيّة ( حجاجيّة ) واتيقيّة للنقاش، فهل تبدو هذه الشروط كافية اليوم لمواجهة أشكال المغالطة التي يتعرّض لها الإنسان وقد صارت مركّبة وخفيّة وتستعمل اللّغة على أنحاء جديدة تفلت من إطار الاستدلال والحجاج وتتحرّك خارج التقابل بين الصدق والخطأ ؟
ينبّهنا التحليل البنيويّ الذي قدّمه جان بودريارJean Baudrillard للمجتمع الاستهلاكيّ أنّ أشكال المغالطة التي يتعرّض لها الأفراد في إطار هذا المجتمع قد تغيّرت آليات عملها بشكلٍ جذريّ بحيث لم يعد من الممكن مواجهتها بالأدوات التقليديّة التي تلجأ إلى المنطق والحجاج بلهي تستدعي تحليلا بنيويا ينطلق الحضارة الاستهلاكيّة كنسق لكشف الدلالة العميقة غير الواعية للمغالطات الزائفة التي يقع في أسرها الأفراد .
ويمكن إبراز هذا التمشي من خلال القسم الثالث من مؤلفه الذي خصصه لتحليل : وسائل الإعلام، والجنس والترفيه، حيث قام بتحليل الخطاب الإشهاريّ ليبرز أنّه خطاب يخرج عن إطار الصدق والخطأ ، فهو لا يقدّم استدلالات يمكن إخضاعها لتحليل منطقيّ والحكم عليها بالصدق أو بالخطأ، وإنّما هو يقدّم خطابا أسطوريا جديدا يقوم على النبوءة لأنّه لا يهدف إلى الإعلام أو الإقناع ، فلا هدف له سوى أن يجعل المتقبّل يأمل . فهو يمنح الأمل للمستهلك في أن تحقّق له البضاعة الوعد المرتقب. إنّ الخطاب الإشهاريّ إذن هو خطاب إشارة بلا لغة ولا معنى ولا حجج قوامه أمر تكراريّ يمنح وعدا مرتقبا. يقول بودريار ( المجتمع الاستهلاكيّ) " إنّ الجمل الإشهاريّة لا تفسّر ولا تطرح معنى ، فهي ليست بالصادقة ولا بالكاذبة ."
"…les syntagmes publicitaires n'expliquent pas, ne proposent de sens, ils ne sont ni vrais ni faux." ( la société de consommation p.199 )
إنّ هذا الخطاب الذي لا يفسّر ولا ينتج معنى ، لا يمكن كشف المغالطات الثاوية فيه من خلال تحليل منطقيّ لبنائه بل ببحث بنيويّ يتقصّى وظيفته. عندئذ يمكن رصد المسافة الفاصلة بين الأوهام التي يحملها الأفراد عن الاستهلاك وعن وظيفته الموضوعيّة. فالاستهلاك ليس اقتناء لموضوعات وخدمات تمنح السعادة وتحقّق الرفاهيّة وتجسّم فعليّا المساواة، بل إنّ غرضها أن تحتوي التناقضات الاجتماعيّة بتوليد الاختلاف. فالاستهلاك يتيح للأفراد وللمجموعات أن تتمايز فيما بينها وأن تتغيّر باستمرار من خلال ثورات استهلاكيّة هادئة تتمثّل في تغيير دوريّ للبضائع وللخدمات وللملابس ولأشكال الزينة وللسيارات... وحتّى للمهارات وللخبرات. إنّ هذه الثورات داخل النظام تمكّن من احتواء التناقضات لمنعها من الانفجار والحيلولة دون ثورة فعليّة تهدّد النظام نفسه.
إنّ الايديولوجيا لم تعد بحاجة إلى خطاب تبريريّ يلجأ إلى المغالطة في صيغتها التقليدية من أجل التضليل وتبرير الواقع السائد، لأنّ المغالطة أضحت تتحرّك على مستوى لاوعي الأفراد وتغالطهم دون أن تتحدّث إليهم. يقول بودريار( المجتمع الاستهلاكيّ ) " وهكذا قد تمكّن الاستهلاك وحده من الحلول مكان كل الايديولوجيات ، ومن الاضطلاع وحده بمرور الزمن بإدماج مجتمع بأسره كما كانت تفعل الطقوس التراتبيّة والدينيّة في المجتمعات البدائيّة."


قائمة المراجع
Aristote, L'organon,VI Les réfutations sophistiques, traduction et notes J. Tricot ,éd Vrin 1969

Jürgen Habermas, Théorie de l'agir communicationnel , éd Fayard 1987

Jean Baudrillard, La société de consommation, éd Idées/ Gallimard 1970

Chaïm Perelman et Lucie Olbrechts- Tyteca, Traité de l'argumentation,éd de l'université de Bruxelles,1992

Michel Meyer, De la problématologie, éd Pierre Mardaca 1986

مهدي فضل اللّه، مدخل إلى علم المنطق ( المنطق التقليديّ ) ، دار الطليعة، بيروت1977
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الفلسفة في مواجهة عنف المغالطة من خلال " الدحوضات السفسطائيّة " لأرسطو
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
..:: منتدى أقلام الجزائر ::.. :: كليات وجامعات :: كلية الآدب العربي :: الفلسفة-
انتقل الى: