في أيامنا، توجد مدارس فكرية في اختصاصات كالفلسفة والأنتروبولوجيا والنقد الأدبي، تُولي اهتماماً خاصاً بكافة آليات "التهجين" هذه، والتعدّدية الثقافية والاختلاط الثقافي. ويُلاحَظ ذلك خصوصاً في تلك المناطق، حيث الحدود بين الدول تفصل أيضاً بين ثقافات (كالحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك)، كذلك في المدن المختلطة الضخمة كساو باولو وسينغافورة أو نيويورك، التي تضمّ مزيجاً من الأعراق والثقافات الأكثر اختلافاً. يُقال أنّ العالم الحالي متعدّد الإثنيات ومتعدّد الثقافات، ليس بسبب ارتفاع عدد المجتمعات والثقافات، بل لأنّ صوتها أصبح مسموعاً ومستقلاً وحازماً بشكل متزايد، فارضاً الاعتراف بقيمتها الفعلية وبمكانتها على طاولة الأمم. ويشكّل النصف الثاني من القرن العشرين زمناً تخلّص فيه ثلثا سكان الأرض من وطأة الاستعمار وأصبحوا مواطنين ينتمون لدول مستقلّة. شيئاً فشيئاً، بدأ هؤلاء الأشخاص باكتشاف ماضيهم الخاص وثقافتهم وخيالهم وأساطيرهم وخرافاتهم وجذورهم وهويّتهم. ومتى اضطلعوا بهذه الاكتشافات، أصبحت مصدر افتخار شرعيّ لهم. من الآن فصاعداً، يريد هؤلاء النساء والرجال الذين كانوا مستعمرين التحكّم بمصيرهم؛ فهم لا يتحمّلون أن يُعامَلوا كأشياء بعد اليوم، كصور، كالضحايا المُستسلمين لحكمٍ أجنبي قديم. إنّ الكرة الأرضية التي سكنها، على مدّ قرون، حفنة من الرجال الأحرار وجموع ضخمة من الكائنات البشرية الرازحة تحت الاستعباد أو الرقّ، قد شهدت تزايد عدد الدول المستقلة التي حظيت بمعنى لهويّتها الخاصة ولأهمّيتها السياسية المتزايدة، كلّما ازداد عددها. وغالباً ما تصادمت هذه الظاهرة بمشاكل ضخمة وصراعات ومآسٍ وما ترتّب عن ذلك من حصيلة مُرعبة من الضحايا.
كلّ ذلك يفتح الطريق نحو عالمٍ جديد، لدرجة أنّ التجارب المكدّسة على مرّ التاريخ لا تكفي ربما لفهمه والتموضع داخله. ومهما يكن، ففي استطاعتنا وصف هذا العالم الجديد بـ"أرض الفرصة الكبرى". لكن مع بعض الشروط. إذ أن في هذا العالم الذي سيولد، سنقع في كلّ لحظة على "آخرٍ" جديدٍ سيظهر شيئاً فشيئاً من داخل الفوضى والضياع اللّذيْن يشهدهما عصرنا الحالي. يجب أن نحاولفهمه والتحاور معه. إنّ هذا "الآخر" هو وليد تلاقي التيّاريْن اللّذيْن يؤثّران على ثقافة العالم المعاصر: تيار العولمة الليبيرالية الذي يوحّد حقيقتنا، وعكسه، أي التيار الذي يحافظ على اختلافاتنا وميزاتنا و"عدم قابليّتنا للنسخ". إنّ تجربتي بالعيش لسنوات طويلة مع "آخرين"، بعيدين جداً عنا - البيض، الغربيّين، الأوروبيين-، علّمتني بأنّ الانفتاح على الإنسان الآخر هو الطريقة الوحيدة لعزف موسيقى الإنسانية المشتركة. من سيكون هذا "الآخر" الجديد؟ كيف سيكون لقاؤنا؟ ماذا سنقول لبعضنا؟ وبأية لغة؟ وهل سنتمكّن من الاستماع إلى بعضنا البعض؟ هل سيتوصّل الواحد منّا لفهم الآخر؟ هل سيعرف كلّ منا اللّحاق - بحسب تعبير جوزيف كونراد- بما "يتحدّث عن قدرتنا على السعادة والإعجاب، إن كان يتوجّه للإحساس بالغموض الذي يحيط بحياتنا، بإحساسنا بالخير والجمال والعذاب، بالشعور الذي يربطنا بالخليقة جمعاء؛ وبالقناعة الدقيقة، إنما الثابتة، بالتضامن الذي يجمع وحدة القلوب التي لا تُحصى: لهذا التضامن في الأحلام واللذة والتعاسة والشغف والأوهام والأمل والخوف، الذي يقرّب أيّ إنسان من قريبه ويجمع البشرية جمعاء، الأموات والأحياء، ثمّ الأحياء مع الذين لم يُولدوا بعد [2]" ؟
* كاتب وصحافيّ بولونيّ، من كتبه: Le N�gus (Flammarion, 1994)) Le Shah (Flammarion, 1995), Imperium (Havas Poche, 1999) et Eb�ne (Plon, 2000).
[1] ترجمه من الانكليزية إلى الفرنسية وقدمه Andr� et Simone Devyver مع تقديم مستفيض من اللورد Sir James Frazer, Editions Gallimard, 606 pages, Paris, 1963.
[2] Joseph Conrad, Le N�gre du "Narcisse" (1897), traduit de l’anglais par Robert D’Humi�res, Gallimard, Paris, 1935.
هذا النص مُقتبَس من الخطاب الذي ألقاه الكاتب في 17 حزيران/يونيو 2005، بمناسبة تقليده دكتوراه فخرية في جامعة رامون لول في برشلونة ـ اسبانيا.